استهداف حراس الديمقراطية.. ما هي تداعيات قمع نشطاء مكافحة الفساد في أوكرانيا؟
استهداف حراس الديمقراطية.. ما هي تداعيات قمع نشطاء مكافحة الفساد في أوكرانيا؟
في قلب الصراع الأوكراني الروسي المستمر، لا تقتصر المعركة على ساحات القتال الأمامية فحسب، بل تمتد إلى الجبهة الداخلية حيث مكافحة الفساد، ففي الوقت الذي تتلقى فيه كييف دعمًا دوليًا هائلًا لمواجهة العدوان الخارجي، تتصاعد مخاوف جدية بشأن تضييق المساحات على نشطاء مكافحة الفساد، الذين يُعدون ركيزة أساسية لأي دولة ديمقراطية تطمح إلى الشفافية وسيادة القانون، وهذه الأزمة تُثير تساؤلات حول التزام أوكرانيا بالإصلاحات الداخلية وحماية الحريات الأساسية في زمن الحرب.
في 11 يوليو الجاري، شهدت أوكرانيا تطورًا مقلقًا يجسد هذا التوتر، حيث أجرى مكتب التحقيقات الحكومي الأوكراني عمليات تفتيش مكثفة استهدفت فيتالي شابونين، الناشط البارز في مكافحة الفساد،
شابونين، المعروف بدوره المحوري في كشف مزاعم الفساد الحكومي، وخاصة انتقاداته الأخيرة لوزارة الدفاع ومكتب الرئيس بشأن مشترياتهما وتوريداتهما للأسلحة، يجد نفسه الآن تحت طائلة القانون بتهم "التهرب من الخدمة العسكرية والاحتيال"، وهي تهم قد تصل عقوبتها إلى السجن لمدة 10 سنوات.
المثير للقلق هو تفاصيل عمليات التفتيش. داهم المحققون منزل عائلة شابونين في العاصمة كييف، بالإضافة إلى مكان خدمته بالقرب من خط المواجهة في منطقة خاركيفسكا، حيث نُقل شابونين قبل يوم واحد فقط من قِبل القيادة العسكرية المركزية.
وفقًا لمركز مكافحة الفساد (AntAC)، الذي شارك شابونين في تأسيسه، أُجريت هذه العمليات دون أمر قضائي واضح أو مبرر قانوني للإلحاح، مما قوض حق شابونين وعائلته في الاستعانة بتمثيل قانوني، ولم يكتفِ المحققون بذلك، بل صادروا هواتف وأجهزة لوحية من زوجة شابونين وطفليه، بالإضافة إلى ساعته، في خطوة تبدو وكأنها تهدف إلى مصادرة أي أدلة أو معلومات قد تدعم موقفهم، وفي 15 يوليو، فرضت المحكمة شروطًا على شابونين تمنعه من مغادرة موقع وحدته، مما يحد بشكل كبير من قدرته على متابعة قضيته أو التواصل بحرية.
حملة تشهير وتضييق
القضية الجنائية الأخيرة ضد شابونين لم تأتِ من فراغ، بل سبقتها حملة تشهير ممنهجة استمرت عامًا كاملاً، تضمنت هذه الحملة تصوير شابونين على أنه متهرب من التجنيد ومحتال، في محاولة واضحة لتشويه سمعته وتقويض مصداقيته، لم تتوقف الضغوط عند هذا الحد؛ فقد واجه تهديدات عبر الإنترنت وعمليات كشف لمعلومات شخصية، في تكتيك يهدف إلى ترهيب النشطاء وعائلاتهم.
الخلفية الأكثر قتامة لهذه الضغوط تعود إلى أحداث سابقة لم تسفر عن نتائج حقيقية في التحقيقات. ففي عام 2020، أُضرمت النيران في منزل عائلة شابونين بالقرب من كييف، كما قام مجهولون بزرع متفجرات تحت أبواب شقق والدته ووالدي زوجته، هذه الحوادث الخطيرة، التي تهدد سلامة عائلته بشكل مباشر، لم تسفر تحقيقات الشرطة فيها عن أي نتائج ملموسة.
ما يثير تساؤلات جدية حول جدية السلطات في حماية نشطاء مكافحة الفساد والتحقيق في الاعتداءات ضدهم، وهذا الفشل المتكرر في تحقيق العدالة يُرسل رسالة واضحة بأن هذه الهجمات قد تمر دون عقاب، مما يشجع على المزيد من الانتهاكات بحسب مراقبين.
تداعيات على المجتمع المدني
داريا كالينيوك، المديرة التنفيذية لـ "AntAC"، ربطت تحرك السلطات الأخير ضد شابونين بـ"اختبارها للخطوط الحمراء"، و هذه الخطوط الحمراء، وفقًا لكالينيوك، تم تجاوزها عندما رفضت الحكومة تعيين رئيس مكتب الأمن الاقتصادي المُختار قانونيًا، ما يعكس تجاهلاً لمبادئ حكم القانون والشفافية.
وصرحت كالينيوك لـ "هيومن رايتس ووتش": "من الواضح أن المكتب الرئاسي لا يرحب بكشفنا عن مزاعم الفساد والمبادرات الحكومية الضارة، ونرى في ذلك محاولة لصرف انتباهنا عن عملنا". هذا التصريح يعكس إحساسًا متناميًا بين منظمات المجتمع المدني بأن العمل الجاد لمكافحة الفساد أصبح يواجه مقاومة داخلية، خاصة عندما يتعلق الأمر بكشف الانتهاكات في الدوائر العليا للحكومة أو في قطاعات حساسة مثل الدفاع في زمن الحرب، إذا استمرت السلطات في ملاحقة منظمات المجتمع المدني التي تعمل على مكافحة الفساد، فمن المرجح أن تكون "AntAC" "في طليعة المطالبين بالعدالة، لأن صوتنا من أعلى الأصوات في أوكرانيا". هذا التحدي المباشر يؤكد تصميم المجتمع المدني على الاستمرار في دوره الرقابي رغم الضغوط.
توصيات ومخاوف حقوقية
المنظمات الحقوقية الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش، أصدرت تحذيرات واضحة بشأن هذه التطورات. هيومن رايتس ووتش تؤكد أن حرية التعبير والتعددية أساسيتان في الأنظمة الديمقراطية. ويجب على السلطات الأوكرانية ألا تتورط في أعمال انتقامية ضد نشطاء المجتمع المدني الذين يكشفون عن مزاعم الفساد وإساءة استخدام السلطة، أو أن تتسامح معها، إن عدم القيام بذلك يقوض سيادة القانون ويشجع على المزيد من الانتهاكات.
المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول المانحة والمنظمات الأممية، يراقب هذه التطورات عن كثب. دعم أوكرانيا في حربها ضد العدوان الخارجي مرتبط بشكل وثيق بالتزامها بالإصلاحات الداخلية ومكافحة الفساد، قمع الأصوات المناهضة للفساد يمكن أن يقوض ثقة الشركاء الدوليين ويعرقل جهود إعادة الإعمار والتكامل الأوروبي لأوكرانيا.
في تقرير صادر عن مجموعة من الخبراء المستقلين التابعين للأمم المتحدة في وقت سابق، تم التأكيد على أن حماية المدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء مكافحة الفساد أمر بالغ الأهمية لسلامة أي مجتمع ديمقراطي، وأشاروا إلى أن استهداف هؤلاء الأفراد، خاصة في سياق النزاعات، يمكن أن يؤدي إلى تفاقم انعدام الثقة في المؤسسات الحكومية، وإعاقة جهود الإصلاح، وتوفير غطاء لممارسات الفساد التي تستنزف الموارد الحيوية.
من منظور حقوقي، لا يمثل تضييق الخناق على نشطاء مكافحة الفساد في أوكرانيا، كما يتجلى في قضية فيتالي شابونين، مجرد حادث عرضي، بل هو انتكاسة خطيرة لمسار حقوق الإنسان والحريات الأساسية في البلاد، فالمنظمات غير الحكومية، وعلى رأسها تلك المعنية بمكافحة الفساد، تُعد الشريك الحيوي والرقيب الفعال على السلطة، وتعمل كصمام أمان يحمي الشفافية ويضمن المساءلة في أي نظام ديمقراطي حقيقي، وعندما تُستهدف هذه الأصوات، سواء عبر التشهير أو الترهيب أو الملاحقات القضائية المشكوك فيها، فإن الرسالة التي تُبعث بها تتجاوز الأفراد لتصل إلى المجتمع المدني بأسره، مما يخلق مناخًا من الخوف ويُثبط همم النشطاء الآخرين عن القيام بواجبهم الرقابي.
هذه الممارسات لا تقوض فقط حرية التعبير والتجمع السلمي، وهي حقوق أساسية مكفولة بموجب القانون الدولي، بل تضعف كذلك قدرة أوكرانيا على بناء مؤسسات قوية ونزيهة، وهي ضرورة قصوى لدولة تخوض حربًا وتتطلع إلى مستقبل أوروبي ديمقراطي. إن غياب المساءلة الفعالة عن هذه الانتهاكات يرسخ ثقافة الإفلات من العقاب ويشجع على المزيد من التضييق، ما يهدد بتقويض النسيج الديمقراطي الذي تسعى أوكرانيا جاهدة لبنائه وحمايته.
تحدي الوعود والواقع
يبرز التناقض بين الوعود السياسية والواقع المرير بشكل جلي عند النظر إلى هذه الضغوط في سياق تعهدات الرئيس فولوديمير زيلينسكي بمكافحة الفساد، والتي كانت محور حملته الانتخابية وسبباً رئيسياً لصعوده إلى السلطة.
وبينما كان زيلينسكي يمثل الأمل في التغيير والقضاء على الفساد المتجذر، فإن التعامل مع نشطاء مكافحة الفساد بهذه الطريقة يثير تساؤلات جدية حول وجود إرادة سياسية حقيقية لمواجهة الفساد في أعلى مستوياته، خاصة في قطاعات حساسة مثل الدفاع في زمن الحرب.
وهذا التناقض ينعكس بوضوح في مؤشرات الأداء الدولية؛ فوفقاً لـ مؤشر مدركات الفساد (CPI) لعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلت أوكرانيا المرتبة 104 من أصل 180 دولة بـ 36 نقطة من أصل 100، ورغم أن هذا يمثل تحسنًا طفيفًا مقارنة بالسنوات السابقة (33 نقطة في 2023)، إلا أنه لا يزال يشير إلى وجود تحديات عميقة.